الملكية الفكرية والذكاء الإصطناعي
13-آب-2023
style="text-align: justify;">بقلم: عبدالناصر ردمان
خبير ملكية فكرية عربي معتمد
نائب مدير ملكية فكرية في أبو غزاله للملكية الفكرية – مكتب اليمن
يقوم نظام الملكية الفكرية على مبدأ المكافأة للإبداع والجهد الذي يقدمه الإنسان في صورة أفكار مبتكرة تتمثل في منتجات مبتكرة وطرق جديدة للقيام بالأعمال اليومية مثل الابتكارات التقنية والتصاميم الجذابة، والعلامات التجارية المميزة، والأعمال الموسيقية والسينمائية والمسرحية والأغاني واللوحات والمنحوتات والبرمجيات الحاسوبية ومختلف الأسرار التجارية وغيرها من المنتجات الابتكارية. لكن هذا النظام على وشك أن يتغير جذرياً مع ظهور الذكاء الإصطناعي وتطبيقاته المختلفة التي ستغير في كثير من المفاهيم وعلى رأسها مفهوم الابداع والابتكار، وكذلك طرق التعامل مع حقوق الملكية الفكرية في المنتجات الابتكارية والابداعية.
إن الذكاء الإصطناعي هو تخصص في علم الحاسوب يهدف إلى تطوير آلات وأنظمة بإمكانها أن تؤدي مهام تتطلب ذكاءً بشريًا، سواء كان ذلك بتدخل بشري محدود أو حتى بدون تدخل بشري، وذلك بالاعتماد على التعلّم الآلي والتعلّم العميق.
ظلت تكنولوجيا الحاسوب، حتى سنوات قليلة، بمثابة أدوات تساعد المبدعين والمبتكرين في تقديم منتجات ابتكارية، كما ساعدت المستخدمين العاديين على توفير الجهد في أعمالهم اليومية. فتكنولوجيا الحاسوب لم تكن أكثر من أدوات لتحسين الابتكارات واختصار لوقت انجاز المهام. ولكن مع ظهور الذكاء الإصطناعي تغيرت وظيفة تكنولوجيا الحاسوب لتصبح مُولدة للابتكارات إذ يمكن لأي مستخدم عادي أن يقوم بكتابة أوامر لتلك التطبيقات بغرض توليد نصوص وتصاميم وصور وفيديوهات جديدة ومبهرة، وهنا يبرز التحدي الأكبر أمام القائمين على تطبيق نظام الملكية الفكرية وهو كيفية تحديد ملكية الابتكارات والأعمال الابداعية التي لم يبذل المستخدم العادي قليل الموهبة أدنى جهد في توليدها سوى كتابة بضع كلمات مفتاحية في مربع البحث الخاص ببرنامج الذكاء الإصطناعي!
في ظل غياب التشريعات التي تنظم ملكية المنتجات الإبداعية والابتكارية التي يولدها الذكاء الإصطناعي، ظهرت محاولات في شكل سوابق قضائية وأحكام إدارية تخص تحديد ملكية المنتجات الفكرية الناتجة عن الذكاء الإصطناعي في بعض الدول، فذهب فريق إلى أن مصمم برنامج الذكاء الإصطناعي هو من يملك الحقوق في جميع المنتجات التي يولدها البرنامج، بينما ذهب آخرون إلى أن المصمم/المبرمج يملك الحقوق الفكرية في البرنامج نفسه فقط ولا يملك ما ينتجه ذلك البرنامج، كما أن فريق من الخبراء يدعو إلى نسبة ملكية منتج الذكاء الإصطناعي إلى المستخدم الذي أعطى أمر توليده وليس لمصمم البرنامج، وذهب آخرون إلى أن ملكية تلك المنتجات يجب أن تعود ملكيتها لبرنامج الذكاء الإصطناعي نفسه! وعلى الجانب الآخر ظهرت أحكام تمنع منح أي حقوق في منتجات الذكاء الإصطناعي لأي طرف وتؤكد على أن حقوق الملكية الفكرية لا يمكن منحها إلا للإنسان فقط وليس للتطبيقات الجامدة التي لا تستفيد من الحقوق المادية أو المعنوية التي يمنحها نظام الملكية الفكرية للإنسان الذي يحتاج للمكافأة والحافز نظير الإبداع والجهد الذي قام وسيقوم به.
في الأسطر القادمة سنتناول أبرز المحطات المهمة التي سيتفاعل فيها نظام الملكية الفكرية مع الذكاء الإصطناعي من وجهة نظر الكاتب:
أولاً: التشريعات وانفاذ حقوق الملكية الفكرية:
مع انتشار تطبيقات الذكاء الإصطناعي في كثير من الاستخدامات اليومية برزت الحاجة الملحة لتطوير الاتفاقيات الدولية الخاصة بالملكية الفكرية وصياغة اتفاقيات جديدة تتناول التحديات التي طرحها الذكاء الإصطناعي، وذلك لضمان عدم حدوث ارتباك وتناقض في الأحكام الإدارية والقضائية في مختلف بلدان العالم التي تحتكم جميعها إلى عدد من الاتفاقيات الدولية، وأبرزها اتفاقيتي باريس للملكية الصناعية واتفاقية برن لحماية المصنفات الأدبية والفنية. وفي هذا الاتجاه بدأت المنظمة العالمية للملكية الفكرية (ويبو) خلال السنوات الأخيرة في عقد جلسات حوارية مفتوحة تهدف إلى تزويد أصحاب المصلحة بإطار عالمي رائد لمناقشة تأثير التكنولوجيات الرائدة بما في ذلك الذكاء الإصطناعي على حقوق الملكية الفكرية، وقد عقدت سبع جلسات في هذا المنتدى العالمي وصدرت وثيقة مهمة بعنوان (الصيغة المنقحة لقائمة قضايا سياسات الملكية الفكرية والذكاء الإصطناعي) في مايو 2020 كدليل استرشادي عالمي للأنظمة الإدراية والقضائية المعنية بمنح وانفاذ حقوق الملكية الفكرية في مختلف دول العالم، ومن المتوقع أن تكون هذه الوثيقة هي النواة الأساسية لتطوير وتحديث الاتفاقيات العالمية الخاصة بالملكية الفكرية استجابةً لما طرحه الذكاء الإصطناعي من تحديات في هذا المجال.
ثانياً: استخدام الذكاء الإصطناعي في فحص طلبات تسجيل حقوق الملكية الفكرية وصياغة طلبات براءات الاختراع:
وكما أن تطبيقات الذكاء الإصطناعي ستكون السبب في خلق مشكلة لفاحصي طلبات تسجيل حقوق الملكية الفكرية، وذلك في صعوبة تحديد أصالة المنتجات الفكرية المطلوب تسجيلها، إلا أن تلك التطبيقات الذكية نفسها ستكون جزءاً من الحل أيضاً وذلك من خلال استخدامها من قبل الفاحصين في إجراء الفحص الموضوعي لطلبات تسجيل العلامات التجارية وبراءات الاختراع والنماذج الصناعية، حيث سيكون من السهل على الفاحصين تحديد درجة الأصالة والابتكار في تلك المنتجات الفكرية، وذلك بناءً على النتيجة النهائية التي ستخلص لها تلك التطبيقات التي ستعتمد على أكثر من قاعدة بيانات في إجراء البحث والتحقق، كما ستمكن تلك التطبيقات الفاحصين من إجراء الفحص الموضوعي بأكثر من طريقة مما سيضمن جودة ودقة نتائج الفحص الموضوعي لطلبات تسجيل الملكية الفكرية.
إن تحديد جدة الاختراعات وصياغة طلبات تسجيل براءات الاختراع هي أبرز الصعوبات التي تواجه المخترعين عند تقديم طلبات تسجيل اختراعاتهم لدى مكاتب البراءات، حيث إن هذه المهام تتطلب قدرات ومهارات لا يملكها كثير من المخترعين مثل المعرفة القانونية ومهارات الكتابة والصياغة اللغوية والمهارات التحليلية لموضوع الاختراع، وهنا سيأتي دور تطبيقات الذكاء الإصطناعي لتعمل كمساعدات شخصية للمخترعين سواء في تحديد جدة الاختراعات التي يطورونها أو في الصياغة شبه النهائية لطلبات تسجيل اختراعاتهم.
ثالثاً: استخدام الذكاء الإصطناعي في مكافحة التزوير:
ستساعد تطبيقات الذكاء الإصطناعي القضاة ومتخذي القرارات الإدارية في مكاتب تسجيل حقوق الملكية الفكرية والجمارك في تحديد درجة التشابه بين حقوق الملكية الفكرية موضوع النزاع، واتخاذ القرارات المناسبة في النزاعات الناشئة عن منح واستخدام تلك الحقوق من قبل مختلف الأطراف، كما ستساعد تلك التطبيقات في زيادة مستوى إنفاذ حقوق الملكية الفكرية من خلال مساعدة المختصين الذين يعملون في المنافذ الجمركية، حيث ستسهل عليهم تحديد درجة التشابه بين السلع الخاضعة للفحص الجمركي، الأمر الذي سيحدُ كثيراً من دخول السلع المقلدة والمزورة إلى الأسواق.
رابعاً: الأصالة والميزة التنافسية:
إن الاستخدام الواسع والمفرط لتطبيقات الذكاء الإصطناعي في مختلف جوانب الحياة اليومية والأعمال المهنية سيقود إلى ظهور موجة ارتداد إلى الأصالة والابداع الإنساني، وستتعزز قوة تلك الموجة مع ظهور أخطاء الذكاء الإصطناعي وقصوره في تقديم حلول للمشكلات المعقدة المرتبطة بالجوانب الثقافية والنفسية. وبالنتيجة، فإن بعض أصحاب الأعمال سيتجهون إلى تبني الأصالة الإنسانية في تقديم منتجاتهم وبناء ميزتهم التنافسية على أساس تقديم منتجات يطورها أناس حقيقيون بعيداً عن تطبيقات الذكاء الإصطناعي، وستظهر عبارات مثل (تم إعداده من قبل إنسانPrepared by Human ) أو (الخدمة مقدمة من قبل أناس حقيقيون The Service is Presented by Humans ) عند الترويج لمنتجات طُورت خارج تطبيقات الذكاء الإصطناعي على غرار عبارة (Hand Made) التي أصبحت مرادفة للمنتجات المتقنة في ظل الوجود الطاغي للمنتجات ذات الجودة المتوسطة أو الرديئة المصنعة بالآلات والروبوتات.
خامساً: أخلاقيات الأعمال والذكاء الإصطناعي:
مع الاستخدام المفرط لأدوات الذكاء الإصطناعي في الأعمال فإن الشفافية والمسؤولية والمهنية ستكون على المحك، وهنا ستبرز الحاجة لتطوير آليات وبنود في عقود العمل واتفاقيات التطوير بين الشركات والموظفين والمتعاقدين، لضمان الاستخدام المعقول لتطبيقات الذكاء الإصطناعي في تطوير وتقديم المنتجات الإبداعية والابتكارية.
خاتمة:
سيعمل الذكاء الاصطناعي على إحداث تغيير جذري في قوانين الملكية الفكرية وآليات منح وإنفاذ حقوق الملكية الفكرية حول العالم، وسيقع العبء الأكبر على المشرعين، وعلى رأسهم المنظمة العالمية للملكية الفكرية (وايبو)، في بناء نظام ملكية فكرية مرن وديناميكي يضمن خلق توازن بين تحفيز وتشجيع الإبداع والابتكار الإنساني من جهة والتعاطي الفعّال مع المتغيرات والتحديات التي سيفرضها الذكاء الإصطناعي، سواءً على أصحاب حقوق الملكية الفكرية أوعلى العاملين في منح وإنفاذ تلك الحقوق في الجهات الحكومية والقضائية والوكلاء القانونين والمحامين في مجال الملكية الفكرية.